السطو على الثورات ليست ظاهرة عارضة في التاريخ, إنما هي ظاهرة جوهرية تمتّ إلى طبيعة التاريخ الإنساني بالذات, وتعكس تناقضات القوى والمصالح العاملة في هذا التاريخ, التي تريد طبعه بطابعها الخاص, والتحكم بمساره وفق رغباتها الخاصة. ولهذا السبب بالذات نلاحظ عادة أن نتائج التحولات التاريخية غال
باً ما تكون حافلة بالمفارقات التي قد تعاكس تطلعات الإنسان وتناقضها.
لقد سفكت الكثير من الدماء على مسرح التاريخ لأجل تحقيق غايات إنسانية معينة, ولسوف يتم سفكها أكثر في المستقبل. لكن الدماء وحدها قد لا تضمن أن يكون هناك تطابق بين التحولات التاريخية وأهداف البشر. وغالباً ما عبر عن هذه الظاهرة الفلاسفة والمؤرخين في كتب الفلسفة والتاريخ بنوع من الشعور التشاؤمي والعبثية أو القول باللامعقولية في التاريخ. إلا أن الفيلسوف الألماني فريديك هيغل سعى إلى اكتشاف جذر هذه المفارقة فيما أسماه بـ( مكّر التاريخ). وقد أشيع في الأدب السياسي الانطباع القائل( إن الثورات يصنعها الثوّار الشجعان والمتفانون في حين يحصد ثمارها الانتهازيون والمتسلقون والجبناء).
لايمكن لمسيرة التاريخ أو مآلاته أن تكون وفق أهواء جميع البشر وآمالهم في وقت واحد, إلا إذا كان خالية من التناقض في أهداف البشر ومن التنازع في مصالحهم التاريخية. ولهذا الغرض ينبغي القبول بواقع أن جميع الثورات تبقى رهن الاستلاب ومعرضة للقرصنة حتى في لحظات ذروة انتصارها.
في بدايات القرن العشرين, وتحديداً في عام 1905 قامت الثورة الشعبية الروسية ثم ما لبث أن سطا الشيوعيون البلاشفة على الموجة الأخيرة عام 1915، و في عام 1917 نجح الانقلاب البلشفي بقيادة لينين من الهيمنة تماماً عليها وواصل السطو عليها خليفته جوزيف ستالين الذي أحكم سطوته عبر التخلص من آباء الثورة الحقيقيين مثل بليخانوف وتروتسكي. وصارت هذه الثورة تعرف بعد هذا التاريخ باسم الثورة الشيوعية رغم أنها كانت شعبية ولم يكن الشيوعيون أوّل من انضم لها.
وفي عام 1977 اندلعت الثورة الشعبية الإيرانية على يد الثوار الشيوعيين و شباب ثوريين آخرين, ليبراليين ويساريين وإسلاميين ومن القوميات الإيرانية، وبنتيجة التدخل الأمريكي والفرنسي إلى جانب الخمينيين فيما بعد, وبنتيجة تهاون الثوار و تراخيهم قليلاً أو غفلتهم صعد أتباع الخميني، و ما هي إلا بضعة أشهر حتى تمّ السطو الكامل على الثورة وأسلمتها وصارت تنسب إلى الإسلاميين وتعرّف باسمهم, وتعرّف في كتب التاريخ بالثورة الإسلامية1979برغم من أن من أطلق شرارتها كانوا من غير الإسلاميين.
في كلتا الحالتين، الثوار الأصليون قبلوا بتسليم الثورة إلى طرف ما أو تهاونوا إزاء مصيرها، أو أزيحوا مرغمين أو مكرهين نتيجة التدخل الدولي أو تواطئهم, وتخاذل البعض منهم. وبالنتيجة انقلبت الثورة ضد مبدأها, وأنتجت نظماً مستبدة معادية لحقوق الإنسان كما كان الحال في النظام السوفيتي الستاليني, وكما هو الحال الآن في نظام ولاية الفقية في الجمهورية الإسلامانية الإيرانية. وأدخل البلاد والعباد في نفق مظلم من عهود القهر والعبودية.
تشهد الثورة المصرية اليوم اندفاعاً محموماً نحو( أخوَنَة) الثورة المصرية الكبرى بموازاة سعي المؤسسة العسكرية الانقلاب عليها, التي تريد الاحتفاظ بمواقعها وامتيازاتها السياسية ما أمكن. وبالنتيجة برهنت الانتخابات الرئاسية المصرية أخيراً على أن المنتصر, أيّاً كان, هو أكبر المهزومين من الناحية الواقعية كما بدا. هناك حوالي 49 ممن لم يشاركوا في الانتخابات أصلاً. وعدم مشاركة هؤلاء بوجه عام يفسر بعدم ثقتهم بالخيارين المطروحين, وهذا يعني أنهم في الأصل ضد خيار محمد مرسي. ثانياً هناك جمهور الخصم المشارك والمنافس ل محمد مرسي. أعني ناخبي (شفيق) وأصوات هؤلاء بالطبع تحسب ضد الفائز ( محمد مرسي) . بحساب بسيط نستنتج أن الفائز (محمد مرسي) لم يحصد في الجولة الثانية صوتاً واحداً زائداً على أصواته في الجولة الأولى. الفوز هنا لايفسر بقوة مرسي وشعبيته, وإنما العكس يفسر بضعف شفيق, ويقظة الجمهور المصري. هو لايفسر بقوة ونفوذ الإخوان المسلمين إنما بغياب المشروع السياسي البديل والأمثل, والعداء الواسع النطاق لرموز النظام القديم وتقاليده بين الجمهور المصري. هذا هو الدرس الرئيس الذي يمكن استخلاصه من التجربة المصرية.
المعضلة الآن هي أن لا أحد يريد أن يصدق أن التاريخ يشهد دائماً قرصنة للثورات, ولا أحد يريد الحديث عن هذا الأمر أو الإقرار به, وبالتالي لا نجد من يتطلع إلى وضع مصدّات لحماية الثورة من القرصنة أو السطو عليها. الكل صار يتذرع ويواجه الآخرين بشعار الإسلاموفوبيا كي يدس رأسه في الرمل. فكل ناقد لهذه الظاهرة صار يواجه بالإسلاموفوبيا, وبالمعاداة للإسلاميين, نظير ظاهرة الهلوكوست واتهام الآخرين بمعاداة السامية. هكذا كان الحال مع التاريخ اليهودي, فكل من سعى إلى الحديث عنه نقديّاً يتهم بمعاداة السامية. وحين يشير أي شخص إلى سعي الإخوان المحموم إلى السطو على الثورات واحتواء هذا التغيير الهائل الذي تحمله الثورات, يتهم بالإسلاموفوبيا. إنها الآليات ذاتها في الإقصاء ومصادرة الرأي الآخر.
في منتصف آذار عام 2011 خرج نخبة شجاعة ومميزة من شباب سوريا يطالبون بالتغيير والديمقراطية. تظاهروا في قلب العاصمة. كان هؤلاء يمثلون معظم شرائح المجتمع السوري وتتنوع انتماءاتهم السياسية بين اليساري والليبرالي والقومي. في النهاية تمكنت قوات القمع النظامي من تبديد هذه الحركة الاحتجاجية السريعة كالبرق, واعتقلت نشطائها. في هذا الوقت كان الإسلاميون وتيارهم السياسي المتمثل بـ(حركة الإخوان المسلمين) يتفاوضون مع النظام سرّاً عبر الوسيط التركي. لم يكونوا متحمسين حتى هذا الوقت للاحتجاج ضد النظام, بل كانوا يراهنون على المصالحة مع النظام والشراكة معه في حكم دمشق. ومع هذا واصل السوريون رفضهم للنظام واستمروا في الاحتجاجات خلال هذا الوقت. في نهاية المطاف, وبعد ثلاثة شهور من انتفاضة الشعب السوري ضد استبداد الأسد لم يجد الإخوان بدّاً من الانخراط في الثورة بعد تيقنهم أن السوريين قد أحرقوا جميع المراكب ورائهم, وأنهم عازمون على إسقاط النظام. غير أنهم لم يرتضوا لأنفسهم دور الشريك فحسب, إنما وضعوا نصب أعينهم هدف الاستيلاء على الثورة ماديّاً ورمزياً, وطبعها بطابعهم الأيديولوجي الخاص. وهنا بدأت عملية( القرصنة) الكبرى للثورة. وهذه الغاية كانت تتسق تماماً مع المزاعم التي روّج لها النظام طيلة تلك الفترة عن حركة الاحتجاج بوصفها حركة طائفية متطرفة.
أخذت قوى معارضة إسلامية بتصعيد الخطاب الطائفي بمواجهة خطاب النظام وممارساته الدموية. وبدا خطابهم متخماً بعنف رمزي وطائفي مرعب, ينمّ عن ثقافة سامّة راحت تنخر في جسد الثورة. انتابتهم هستيريا طائفية أخذت عدواها تنتقل بسرعة مرعبة وتلتهم أشلاء التسامح والتعايش في المجتمع السوري. وبموازاة ذلك مضى هؤلاء في استلاب الثورة غبر إسباغ الرمزية الدينية والطائفية عليها. وقد أرادوا لهذه الثورة الانحراف عن مسارها السلمي الوطني, كما أراد لها النظام نفسه من قبل, والابتعاد عن غاياتها ومقاصدها النبيلة المتمثلة بالتغيير السياسي الشامل لنظام الاستبداد وتحقيقي الديمقراطية والمساواة السياسية بين المواطنين. وهذه الثورة التي عمّدت بأنبل تضحيات الشعب السوري أخذ قراصنة الثورات بسلبها والسطو عليها وتوجيهها على نحو مضاد لمصالح الشعب السوري ولمستقبله. فمثلما سطا النظام على مفهوم الإصلاح واستلبه في ذاته فقد سطت تيارات سياسية على الثورة وقرصنتها واحتكرتها في نفسها. وأصبح أهل الثورة والإصلاح الحقيقيين بين قطبي رحى أحدهما لص متغطرس والثاني قرصان أعور وأفّاق. ولا ريب لدي في أن معظم تسميات الجموع( الدينية) التي أطلقتها جهة واحدة مهيمنة ومحتكرة للسان الثورة, قد خدمت النظام أكثر من أي شيء آخر, فبدلاً من أن تستقطب السوريين حول مطالب الثورة في الديمقراطية والمساواة وتحقق وحدتهم السياسية, أثارت المخاوف والظنون لدى شرائح واسعة وخلقت انقساماً واستقطاباً حادّاً في المجتمع السوري لمصلحة النظام.إن سعيها المحموم لاختزال الصراع السياسي في سورية إلى ثقافي وطائفي كانت خيانة كبيرة للثورة وتحايل وتمييع لأزمة الاستبداد.وهو ما أراده النظام بالذات.
هذا الاحتكار المشوه كان لابدّ من أن يؤدي في نهاية المطاف إلى فرض المبدأ الإقصائي التالي( ليس مهماً أن تكون ضد نظام الاستبداد طالما أنك لا تنحو نحوي, وتتصرف مثلي, وتؤمن على طريقتي, وتتبنى انتمائي وولائي, وخلا ذلك فأنت عميل للنظام). وهذا المبدأ كان كافياً لترسيخ الانقسام سطحاً وعمقاً في المجتمع السوري وفي أوساط المعارضة, وهو يعكس إلى حدّ كبير درجة الاستلاب الأيديولوجي للثورة السورية.
طوال الوقت كان النظام يزداد عنفاً وشراسة, كلما كان شعوره بالضعف يزداد بمواجهة الرفض الشعبي الشامل. من هنا أراد أن يفسد سياق الانتفاضة الشاملة ويحرفها عن مسارها وطابعها السلمي بدفعها قسراً إلى العنف المباشر والتطرف المضاد, وإلى جميع أشكال المقاومة المنحرفة. وكان من شأن هذا الانحراف أن قاد الثورة والمجتمع السوري عموماً إلى شفا هاوية الحرب الأهلية.
مأزق عسكرة الثورة كان هو الهدف الثاني الرئيس الذي أراد النظام تحقيقه منذ البداية, وقد نجح إلى حدّ كبير في استدراج قوى كثيرة إليه من منطلق دفع الآخر نحو الدفاع عن الذات, وبالتالي تبرير المزيد من القمع والعنف من جانبه ومنح كل الذرائع والمسوغات لاستخدام ترسانته العسكرية الضخمة ودخول قوى دولية إلى جانبه. هنا ينشأ سؤال جد بديهي وبسيط للغاية, هل يشهد التاريخ على ثورة مسلحة منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى الآن قادت إلى الديمقراطية, أو صنعت نظاماً ديمقراطياً؟
السلاح من جهة أولى لايصنع ثورة ديمقراطية, وليس هنالك دليل تاريخي على أن ثورة مسلحة أدت في نهاية المطاف إلى تأسيس نظام ديمقراطي. وهذا يفقد الثورة كل مبررات نشوئها, ويجعلها تقف ضد مبدأها بالذات, نعني التخلص من الاستبداد وقيام النظام الديمقراطي. ثم أن السلاح أو العسكرة من دون منهاج سياسي وضوابط يتحول إلى عنف أعمى أعمى بلا مبرر. ناهيكم من أن هذه العسكرة منحت النظام كل الذراع والمبررات لاستخدام كل مالديه من وسائل العنف والدمار, بذريعة مواجهة تهديد داخلي إرهابي.
إن عسكرة الثورات تسقط المجتمعات والشعوب قبل أن تسقط النظم المستبدة. وبهذه الطريقة تناقض الثورة مبدأها بالذات ومبرر قيامها حين تلجأ إلى السلاح. ثم هل يمكننا توقع هزيمة النظام عسكرياً دون حصول الخراب الشامل.النظام فقط مرشح للهزيمة بسلمية الثورة, أما العسكرة فيعني الدمار الشامل. وحينها لايمكن أن نتوقع حجم الكارثة هذا ما كان ينبغي أخذه بالحسبان منذ البداية والحذر منه.
من جانب ثالث تهافتت أطراف عديدة نحو استجداء التدخل الإقليمي المضاد في سوريا بمواجهة سلوك النظام, الذي جعل من سوريا حقلاً لاختبار النفوذ الإقليمي لإيران ولعديد من الدول الأخرى.
هؤلاء خدموا النظام بدعواتهم ومنحوه كل الذرائع السياسية والمبررات, سواء بوعي منهم أو دون وعي. وقد كان من شأن تلك المساعي أن ألحقت الضرر بالثورة لجهة سلميتها وطابعها الوطني الشامل والمستقل.
ويلاحظ أنه منذ البداية راح البعض يزرع القناعة لدى السوريين من أنهم عاجزون عن إسقاط النظام سلمياً, وأرادوا من وراء ذلك تبديد الثقة بكل أشكال المقاومة المدنية ودفع الشارع إلى السلاح. في الخطوة الثانية أخذوا يروجون لفكرة أن المقاومة المسلحة ذاتها غير قادرة على تحقيق شيء من دون تدخل خارجي مباشر يعزز من دور هذه المقاومة. في الخطوة الأخيرة اعتبروا أن ليس كل تدخل خارجي مبرر سوى التركي, وفي هذه البرهة صرح السيد ( الشقفة)المراقب العام للإخوان المسلمين السوريين مستعيراً لسان السوريين, وصار ناطقاً باسمهم( إن السوريين يقبلون بالتدخل التركي ويرفضون التدخل الغربي؟) وكان من شأن هذا المطلب أن وضع النظام في موقف الوطني المدافع عن الوطن والأرض أكثر.
إن من طبيعة الحريّة أنها تقاوم القسر الخارجي, والفرض, والغزو أو التدخل. فالحرية التي تأتي من خلال إرادة الآخرين أو عبر عامل خارجي قسري إنما هي حريّة فاسدة أو ستفسد. والمعارضة التي استعانت بالآخرين, بزعم إنقاذ الشعب السوري وتحقيق حريته فشلت عن إدراك أن الحرية هي أولاً وأخيراً نتاج إرادة ذاتية واعية, فردية كانت أم مجتمعية. وأحد الأسباب الرئيسة لإدامة محنة الشعب السورية وإطالة عمر الاستبداد يكمن في أن المعارضة السورية راهنت على التغيير وإسقاط النظام بفعل التدخل الخارجي أكثر من الرهان على إرادة الشعب السوري ورغبته في الخلاص من قيود عبوديته.
فالشعب الذي لايستشعر حاجته العميقة إلى الحرية ويكافح في سبيلها كل لحظة لا يستطيع أن يحترم حريّة صنعها له الآخرون أو فرضت عليه بإرادة غير إرادته. التاريخ يعلمنا أنه لايمكن أن نرغم الآخرين على أن يكونوا أحراراً, إن منطق الإرغام أو الإكراه يتعارض مع مبدأ الحرية.
كذلك يعلمنا التاريخ أن جميع قوى التغيير والمعارضات في العالم التي قامت بالثورات وأحدثت تحولاً عظيماً في أوطانها وأوضاعها, إنما أنتجت, في الوقت ذاته, قيماً وطنية سامية أرقى وأكثر تقدماً, ورسخوا القيم الإيجابية القديمة, قيم الانتماء والتضامن الوطني. والحال حتى الآن, ولسوء حظ السوريين, أن المعارضة الخارجية سورية عجزت عن بلورة قيم وطنية جديدة تعكس انتماءاً وطنياً وديمقراطياً أسمى, على العكس من ذلك, كلما مضى الوقت أكثر تعرّت أكثر من قيمها الوطنية, وغرقت وتمترست وراء قيم أيديولوجية في غاية التخلّف والسلبية والعدائية.
جميع الثورات أنتجها وقادها رجال عظماء إلا الثورة السورية, التي هي عظيمة بحضورها التاريخي وبتضحياتها الإنسانية وحسب, إلا أنها تشكو من هيمنة غيلانٍ انتهازيين وقراصنة استعاروا لسانها وصاروا يتحدثون باسمها.
الموقف الآن في بدايته ونهايته, وبعد أكثر من عام على الثورة, لم يعد متمثلاً في أزمة النظام المستبد في سوريا وحسب, إنما أيضاً أصبح يتمثل في أزمة المعارضة السورية, التي تتقاسم مع النظام جزءاً كبيراً من المسؤولية إزاء ضحايا الشعب السوري. سواء بسبب غرورها, أو عنجهيتها, أو بسبب قصور خطابها السياسي, أو ضيق أفقها, وحتى انتهازيتها السياسية.
في الآونة الأخيرة بدأت الأصوات النقدية ترتفع ضد قرصنة الثورة من جانب أطراف معينة, وضد الهيمنة عليها, وفرض مركزية أيديولوجية لها واحتكارها, وضد اسباغ طابع معين عليها, وضد النزوع إلى عسكرتها, وضد اختزالها في فئة أو طائفة أو أيديولوجية معينة. من المهم الآن استرداد طابعها السوري الشامل, والتأكيد على أنها ثورة سورية بحق, وهي تخص جميع السوريين, ومعنية بأهدافهم جميعها. فقد شرع السوريون بالتعرف على بعضهم بعضاً للمرة الأول, ودون مرايا, في هذه الثورة. صاروا يعرفون أنفسهم ويتواصلون, وينهون حقبة طويلة من الاغتراب الذاتي. أخذوا يتفاعلون معاً ويتبادلون هوياتهم الجزئية ويستردون ذواتهم التي بددها القمع والاستبداد. الثورة رحم ولادة جديدة, وإليها ستنسب سوريا من الآن فصاعداً. برغم من أن البعض يريد لهذا المولود أن يكون مشوها.
لقد سفكت الكثير من الدماء على مسرح التاريخ لأجل تحقيق غايات إنسانية معينة, ولسوف يتم سفكها أكثر في المستقبل. لكن الدماء وحدها قد لا تضمن أن يكون هناك تطابق بين التحولات التاريخية وأهداف البشر. وغالباً ما عبر عن هذه الظاهرة الفلاسفة والمؤرخين في كتب الفلسفة والتاريخ بنوع من الشعور التشاؤمي والعبثية أو القول باللامعقولية في التاريخ. إلا أن الفيلسوف الألماني فريديك هيغل سعى إلى اكتشاف جذر هذه المفارقة فيما أسماه بـ( مكّر التاريخ). وقد أشيع في الأدب السياسي الانطباع القائل( إن الثورات يصنعها الثوّار الشجعان والمتفانون في حين يحصد ثمارها الانتهازيون والمتسلقون والجبناء).
لايمكن لمسيرة التاريخ أو مآلاته أن تكون وفق أهواء جميع البشر وآمالهم في وقت واحد, إلا إذا كان خالية من التناقض في أهداف البشر ومن التنازع في مصالحهم التاريخية. ولهذا الغرض ينبغي القبول بواقع أن جميع الثورات تبقى رهن الاستلاب ومعرضة للقرصنة حتى في لحظات ذروة انتصارها.
في بدايات القرن العشرين, وتحديداً في عام 1905 قامت الثورة الشعبية الروسية ثم ما لبث أن سطا الشيوعيون البلاشفة على الموجة الأخيرة عام 1915، و في عام 1917 نجح الانقلاب البلشفي بقيادة لينين من الهيمنة تماماً عليها وواصل السطو عليها خليفته جوزيف ستالين الذي أحكم سطوته عبر التخلص من آباء الثورة الحقيقيين مثل بليخانوف وتروتسكي. وصارت هذه الثورة تعرف بعد هذا التاريخ باسم الثورة الشيوعية رغم أنها كانت شعبية ولم يكن الشيوعيون أوّل من انضم لها.
وفي عام 1977 اندلعت الثورة الشعبية الإيرانية على يد الثوار الشيوعيين و شباب ثوريين آخرين, ليبراليين ويساريين وإسلاميين ومن القوميات الإيرانية، وبنتيجة التدخل الأمريكي والفرنسي إلى جانب الخمينيين فيما بعد, وبنتيجة تهاون الثوار و تراخيهم قليلاً أو غفلتهم صعد أتباع الخميني، و ما هي إلا بضعة أشهر حتى تمّ السطو الكامل على الثورة وأسلمتها وصارت تنسب إلى الإسلاميين وتعرّف باسمهم, وتعرّف في كتب التاريخ بالثورة الإسلامية1979برغم من أن من أطلق شرارتها كانوا من غير الإسلاميين.
في كلتا الحالتين، الثوار الأصليون قبلوا بتسليم الثورة إلى طرف ما أو تهاونوا إزاء مصيرها، أو أزيحوا مرغمين أو مكرهين نتيجة التدخل الدولي أو تواطئهم, وتخاذل البعض منهم. وبالنتيجة انقلبت الثورة ضد مبدأها, وأنتجت نظماً مستبدة معادية لحقوق الإنسان كما كان الحال في النظام السوفيتي الستاليني, وكما هو الحال الآن في نظام ولاية الفقية في الجمهورية الإسلامانية الإيرانية. وأدخل البلاد والعباد في نفق مظلم من عهود القهر والعبودية.
تشهد الثورة المصرية اليوم اندفاعاً محموماً نحو( أخوَنَة) الثورة المصرية الكبرى بموازاة سعي المؤسسة العسكرية الانقلاب عليها, التي تريد الاحتفاظ بمواقعها وامتيازاتها السياسية ما أمكن. وبالنتيجة برهنت الانتخابات الرئاسية المصرية أخيراً على أن المنتصر, أيّاً كان, هو أكبر المهزومين من الناحية الواقعية كما بدا. هناك حوالي 49 ممن لم يشاركوا في الانتخابات أصلاً. وعدم مشاركة هؤلاء بوجه عام يفسر بعدم ثقتهم بالخيارين المطروحين, وهذا يعني أنهم في الأصل ضد خيار محمد مرسي. ثانياً هناك جمهور الخصم المشارك والمنافس ل محمد مرسي. أعني ناخبي (شفيق) وأصوات هؤلاء بالطبع تحسب ضد الفائز ( محمد مرسي) . بحساب بسيط نستنتج أن الفائز (محمد مرسي) لم يحصد في الجولة الثانية صوتاً واحداً زائداً على أصواته في الجولة الأولى. الفوز هنا لايفسر بقوة مرسي وشعبيته, وإنما العكس يفسر بضعف شفيق, ويقظة الجمهور المصري. هو لايفسر بقوة ونفوذ الإخوان المسلمين إنما بغياب المشروع السياسي البديل والأمثل, والعداء الواسع النطاق لرموز النظام القديم وتقاليده بين الجمهور المصري. هذا هو الدرس الرئيس الذي يمكن استخلاصه من التجربة المصرية.
المعضلة الآن هي أن لا أحد يريد أن يصدق أن التاريخ يشهد دائماً قرصنة للثورات, ولا أحد يريد الحديث عن هذا الأمر أو الإقرار به, وبالتالي لا نجد من يتطلع إلى وضع مصدّات لحماية الثورة من القرصنة أو السطو عليها. الكل صار يتذرع ويواجه الآخرين بشعار الإسلاموفوبيا كي يدس رأسه في الرمل. فكل ناقد لهذه الظاهرة صار يواجه بالإسلاموفوبيا, وبالمعاداة للإسلاميين, نظير ظاهرة الهلوكوست واتهام الآخرين بمعاداة السامية. هكذا كان الحال مع التاريخ اليهودي, فكل من سعى إلى الحديث عنه نقديّاً يتهم بمعاداة السامية. وحين يشير أي شخص إلى سعي الإخوان المحموم إلى السطو على الثورات واحتواء هذا التغيير الهائل الذي تحمله الثورات, يتهم بالإسلاموفوبيا. إنها الآليات ذاتها في الإقصاء ومصادرة الرأي الآخر.
في منتصف آذار عام 2011 خرج نخبة شجاعة ومميزة من شباب سوريا يطالبون بالتغيير والديمقراطية. تظاهروا في قلب العاصمة. كان هؤلاء يمثلون معظم شرائح المجتمع السوري وتتنوع انتماءاتهم السياسية بين اليساري والليبرالي والقومي. في النهاية تمكنت قوات القمع النظامي من تبديد هذه الحركة الاحتجاجية السريعة كالبرق, واعتقلت نشطائها. في هذا الوقت كان الإسلاميون وتيارهم السياسي المتمثل بـ(حركة الإخوان المسلمين) يتفاوضون مع النظام سرّاً عبر الوسيط التركي. لم يكونوا متحمسين حتى هذا الوقت للاحتجاج ضد النظام, بل كانوا يراهنون على المصالحة مع النظام والشراكة معه في حكم دمشق. ومع هذا واصل السوريون رفضهم للنظام واستمروا في الاحتجاجات خلال هذا الوقت. في نهاية المطاف, وبعد ثلاثة شهور من انتفاضة الشعب السوري ضد استبداد الأسد لم يجد الإخوان بدّاً من الانخراط في الثورة بعد تيقنهم أن السوريين قد أحرقوا جميع المراكب ورائهم, وأنهم عازمون على إسقاط النظام. غير أنهم لم يرتضوا لأنفسهم دور الشريك فحسب, إنما وضعوا نصب أعينهم هدف الاستيلاء على الثورة ماديّاً ورمزياً, وطبعها بطابعهم الأيديولوجي الخاص. وهنا بدأت عملية( القرصنة) الكبرى للثورة. وهذه الغاية كانت تتسق تماماً مع المزاعم التي روّج لها النظام طيلة تلك الفترة عن حركة الاحتجاج بوصفها حركة طائفية متطرفة.
أخذت قوى معارضة إسلامية بتصعيد الخطاب الطائفي بمواجهة خطاب النظام وممارساته الدموية. وبدا خطابهم متخماً بعنف رمزي وطائفي مرعب, ينمّ عن ثقافة سامّة راحت تنخر في جسد الثورة. انتابتهم هستيريا طائفية أخذت عدواها تنتقل بسرعة مرعبة وتلتهم أشلاء التسامح والتعايش في المجتمع السوري. وبموازاة ذلك مضى هؤلاء في استلاب الثورة غبر إسباغ الرمزية الدينية والطائفية عليها. وقد أرادوا لهذه الثورة الانحراف عن مسارها السلمي الوطني, كما أراد لها النظام نفسه من قبل, والابتعاد عن غاياتها ومقاصدها النبيلة المتمثلة بالتغيير السياسي الشامل لنظام الاستبداد وتحقيقي الديمقراطية والمساواة السياسية بين المواطنين. وهذه الثورة التي عمّدت بأنبل تضحيات الشعب السوري أخذ قراصنة الثورات بسلبها والسطو عليها وتوجيهها على نحو مضاد لمصالح الشعب السوري ولمستقبله. فمثلما سطا النظام على مفهوم الإصلاح واستلبه في ذاته فقد سطت تيارات سياسية على الثورة وقرصنتها واحتكرتها في نفسها. وأصبح أهل الثورة والإصلاح الحقيقيين بين قطبي رحى أحدهما لص متغطرس والثاني قرصان أعور وأفّاق. ولا ريب لدي في أن معظم تسميات الجموع( الدينية) التي أطلقتها جهة واحدة مهيمنة ومحتكرة للسان الثورة, قد خدمت النظام أكثر من أي شيء آخر, فبدلاً من أن تستقطب السوريين حول مطالب الثورة في الديمقراطية والمساواة وتحقق وحدتهم السياسية, أثارت المخاوف والظنون لدى شرائح واسعة وخلقت انقساماً واستقطاباً حادّاً في المجتمع السوري لمصلحة النظام.إن سعيها المحموم لاختزال الصراع السياسي في سورية إلى ثقافي وطائفي كانت خيانة كبيرة للثورة وتحايل وتمييع لأزمة الاستبداد.وهو ما أراده النظام بالذات.
هذا الاحتكار المشوه كان لابدّ من أن يؤدي في نهاية المطاف إلى فرض المبدأ الإقصائي التالي( ليس مهماً أن تكون ضد نظام الاستبداد طالما أنك لا تنحو نحوي, وتتصرف مثلي, وتؤمن على طريقتي, وتتبنى انتمائي وولائي, وخلا ذلك فأنت عميل للنظام). وهذا المبدأ كان كافياً لترسيخ الانقسام سطحاً وعمقاً في المجتمع السوري وفي أوساط المعارضة, وهو يعكس إلى حدّ كبير درجة الاستلاب الأيديولوجي للثورة السورية.
طوال الوقت كان النظام يزداد عنفاً وشراسة, كلما كان شعوره بالضعف يزداد بمواجهة الرفض الشعبي الشامل. من هنا أراد أن يفسد سياق الانتفاضة الشاملة ويحرفها عن مسارها وطابعها السلمي بدفعها قسراً إلى العنف المباشر والتطرف المضاد, وإلى جميع أشكال المقاومة المنحرفة. وكان من شأن هذا الانحراف أن قاد الثورة والمجتمع السوري عموماً إلى شفا هاوية الحرب الأهلية.
مأزق عسكرة الثورة كان هو الهدف الثاني الرئيس الذي أراد النظام تحقيقه منذ البداية, وقد نجح إلى حدّ كبير في استدراج قوى كثيرة إليه من منطلق دفع الآخر نحو الدفاع عن الذات, وبالتالي تبرير المزيد من القمع والعنف من جانبه ومنح كل الذرائع والمسوغات لاستخدام ترسانته العسكرية الضخمة ودخول قوى دولية إلى جانبه. هنا ينشأ سؤال جد بديهي وبسيط للغاية, هل يشهد التاريخ على ثورة مسلحة منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى الآن قادت إلى الديمقراطية, أو صنعت نظاماً ديمقراطياً؟
السلاح من جهة أولى لايصنع ثورة ديمقراطية, وليس هنالك دليل تاريخي على أن ثورة مسلحة أدت في نهاية المطاف إلى تأسيس نظام ديمقراطي. وهذا يفقد الثورة كل مبررات نشوئها, ويجعلها تقف ضد مبدأها بالذات, نعني التخلص من الاستبداد وقيام النظام الديمقراطي. ثم أن السلاح أو العسكرة من دون منهاج سياسي وضوابط يتحول إلى عنف أعمى أعمى بلا مبرر. ناهيكم من أن هذه العسكرة منحت النظام كل الذراع والمبررات لاستخدام كل مالديه من وسائل العنف والدمار, بذريعة مواجهة تهديد داخلي إرهابي.
إن عسكرة الثورات تسقط المجتمعات والشعوب قبل أن تسقط النظم المستبدة. وبهذه الطريقة تناقض الثورة مبدأها بالذات ومبرر قيامها حين تلجأ إلى السلاح. ثم هل يمكننا توقع هزيمة النظام عسكرياً دون حصول الخراب الشامل.النظام فقط مرشح للهزيمة بسلمية الثورة, أما العسكرة فيعني الدمار الشامل. وحينها لايمكن أن نتوقع حجم الكارثة هذا ما كان ينبغي أخذه بالحسبان منذ البداية والحذر منه.
من جانب ثالث تهافتت أطراف عديدة نحو استجداء التدخل الإقليمي المضاد في سوريا بمواجهة سلوك النظام, الذي جعل من سوريا حقلاً لاختبار النفوذ الإقليمي لإيران ولعديد من الدول الأخرى.
هؤلاء خدموا النظام بدعواتهم ومنحوه كل الذرائع السياسية والمبررات, سواء بوعي منهم أو دون وعي. وقد كان من شأن تلك المساعي أن ألحقت الضرر بالثورة لجهة سلميتها وطابعها الوطني الشامل والمستقل.
ويلاحظ أنه منذ البداية راح البعض يزرع القناعة لدى السوريين من أنهم عاجزون عن إسقاط النظام سلمياً, وأرادوا من وراء ذلك تبديد الثقة بكل أشكال المقاومة المدنية ودفع الشارع إلى السلاح. في الخطوة الثانية أخذوا يروجون لفكرة أن المقاومة المسلحة ذاتها غير قادرة على تحقيق شيء من دون تدخل خارجي مباشر يعزز من دور هذه المقاومة. في الخطوة الأخيرة اعتبروا أن ليس كل تدخل خارجي مبرر سوى التركي, وفي هذه البرهة صرح السيد ( الشقفة)المراقب العام للإخوان المسلمين السوريين مستعيراً لسان السوريين, وصار ناطقاً باسمهم( إن السوريين يقبلون بالتدخل التركي ويرفضون التدخل الغربي؟) وكان من شأن هذا المطلب أن وضع النظام في موقف الوطني المدافع عن الوطن والأرض أكثر.
إن من طبيعة الحريّة أنها تقاوم القسر الخارجي, والفرض, والغزو أو التدخل. فالحرية التي تأتي من خلال إرادة الآخرين أو عبر عامل خارجي قسري إنما هي حريّة فاسدة أو ستفسد. والمعارضة التي استعانت بالآخرين, بزعم إنقاذ الشعب السوري وتحقيق حريته فشلت عن إدراك أن الحرية هي أولاً وأخيراً نتاج إرادة ذاتية واعية, فردية كانت أم مجتمعية. وأحد الأسباب الرئيسة لإدامة محنة الشعب السورية وإطالة عمر الاستبداد يكمن في أن المعارضة السورية راهنت على التغيير وإسقاط النظام بفعل التدخل الخارجي أكثر من الرهان على إرادة الشعب السوري ورغبته في الخلاص من قيود عبوديته.
فالشعب الذي لايستشعر حاجته العميقة إلى الحرية ويكافح في سبيلها كل لحظة لا يستطيع أن يحترم حريّة صنعها له الآخرون أو فرضت عليه بإرادة غير إرادته. التاريخ يعلمنا أنه لايمكن أن نرغم الآخرين على أن يكونوا أحراراً, إن منطق الإرغام أو الإكراه يتعارض مع مبدأ الحرية.
كذلك يعلمنا التاريخ أن جميع قوى التغيير والمعارضات في العالم التي قامت بالثورات وأحدثت تحولاً عظيماً في أوطانها وأوضاعها, إنما أنتجت, في الوقت ذاته, قيماً وطنية سامية أرقى وأكثر تقدماً, ورسخوا القيم الإيجابية القديمة, قيم الانتماء والتضامن الوطني. والحال حتى الآن, ولسوء حظ السوريين, أن المعارضة الخارجية سورية عجزت عن بلورة قيم وطنية جديدة تعكس انتماءاً وطنياً وديمقراطياً أسمى, على العكس من ذلك, كلما مضى الوقت أكثر تعرّت أكثر من قيمها الوطنية, وغرقت وتمترست وراء قيم أيديولوجية في غاية التخلّف والسلبية والعدائية.
جميع الثورات أنتجها وقادها رجال عظماء إلا الثورة السورية, التي هي عظيمة بحضورها التاريخي وبتضحياتها الإنسانية وحسب, إلا أنها تشكو من هيمنة غيلانٍ انتهازيين وقراصنة استعاروا لسانها وصاروا يتحدثون باسمها.
الموقف الآن في بدايته ونهايته, وبعد أكثر من عام على الثورة, لم يعد متمثلاً في أزمة النظام المستبد في سوريا وحسب, إنما أيضاً أصبح يتمثل في أزمة المعارضة السورية, التي تتقاسم مع النظام جزءاً كبيراً من المسؤولية إزاء ضحايا الشعب السوري. سواء بسبب غرورها, أو عنجهيتها, أو بسبب قصور خطابها السياسي, أو ضيق أفقها, وحتى انتهازيتها السياسية.
في الآونة الأخيرة بدأت الأصوات النقدية ترتفع ضد قرصنة الثورة من جانب أطراف معينة, وضد الهيمنة عليها, وفرض مركزية أيديولوجية لها واحتكارها, وضد اسباغ طابع معين عليها, وضد النزوع إلى عسكرتها, وضد اختزالها في فئة أو طائفة أو أيديولوجية معينة. من المهم الآن استرداد طابعها السوري الشامل, والتأكيد على أنها ثورة سورية بحق, وهي تخص جميع السوريين, ومعنية بأهدافهم جميعها. فقد شرع السوريون بالتعرف على بعضهم بعضاً للمرة الأول, ودون مرايا, في هذه الثورة. صاروا يعرفون أنفسهم ويتواصلون, وينهون حقبة طويلة من الاغتراب الذاتي. أخذوا يتفاعلون معاً ويتبادلون هوياتهم الجزئية ويستردون ذواتهم التي بددها القمع والاستبداد. الثورة رحم ولادة جديدة, وإليها ستنسب سوريا من الآن فصاعداً. برغم من أن البعض يريد لهذا المولود أن يكون مشوها.