«العاصفة» أضخم عمل درامي عراقي يوثق للثورة الكردية
مشهد من مسلسل «العاصفة»

«العاصفة» أضخم عمل درامي عراقي يوثق للثورة الكردية

لم يدر بخلد جليل زنكنة، الموظف البسيط في شركة «نفط كركوك» والنظام العراقي السابق يطرده من وظيفته بسبب انتمائه القومي، أنه سائر نحو طريق المجد والشهرة بعد أن يترك مدينته متوجها إلى السليمانية التي نقل إليها قسرا في إطار سياسة ذلك النظام بالتطهير العرقي. فبعد فترة قصيرة من استقراره في المدينة تحتضنه الفرق الفنية والمسرحية المتعددة، خاصة أنه كان أحد الفنانين الذين رفضوا بإباء كل المغريات والعروض التي قدمها النظام البعثي لهم للعدول عن تقديم أعمالهم الفنية باللغة الكردية والتي كان ذلك النظام يرتعب منها، لأنها تحيي الثقافة القومية التي حاول ذلك النظام طمسها طوال سنوات حكمه للعراق.

مشهد من مسلسل «العاصفة»

فالفنان جليل زنكنة الذي حمل معه إلى السليمانية ذخيرة متواضعة من الأعمال الفنية من مسرحيات وتمثيليات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، لكنها كانت أعمالا إبداعية تركت أثرا كبيرا في نفوس مشاهديها، مثل دوره «بلة المجنون» في مسلسل «مرزة» عام 1972، وهو أول مسلسل يصور خارجيا في تلك الفترة من بدايات البث التلفزيوني الكردي الحكومي، ثم دوره في مسرحية «الخرساء» من إخراج الفنان الكبير سلمان فائق الذي يعتبره زنكنة أستاذا لجميع فناني جيل الستينات والسبعينات.

وفي عام 1975 عندما طرده النظام البعثي إلى السليمانية سبقته شهرته كممثل وسيناريست فاحتضنه فنانو المدينة بكل ترحاب وفتحوا له آفاقا جديد لمواصلة عمله الفني المبدع، فقدم هناك عدة أعمال بارزة منها «صرخة اندهاش، وملحمة شيرين وفرهاد، وأفول القمر» ثم المسلسل الكبير «زالة» من تأليفه وإخراج الفنان ناصر حسن وهو المسلسل الذي نال شهرة واسعة في أرجاء كردستان.

وكانت نقطة التحول المهمة في التاريخ الفني لهذا المخرج المبدع هي الانتفاضة الكردية التي نجحت في تحرير إقليم كردستان الحالي من قبضة النظام السابق، حيث سارع مع عدد من زملائه الفنانين منهم جهاد دلباك إلى العمل في التلفزيون المحلي الوحيد آنذاك وهو للاتحاد الوطني الكردستاني وقدما معا «موكب الموت» وهو عمل فني مأخوذ من قصة للكاتب الكردي حسين عارف. واتجه في ما بعد منتصف التسعينات إلى الإخراج السينمائي حيث قدم فيلمين كبيرين، الأول هو فيلم «خولة بيزة» وهو يروي قصة شخصية ثورية كردية دوخت الحكومات العراقية بالعهد الملكي، ثم فيلم «مامة ريشة» الذي يروي قصة أحد أبرز قادة البيشمركة بتاريخ الثورة الكردية الحديثة الذي أثارت نشاطاته العسكرية الرعب في قلوب قادة النظام السابق أثناء الثورة، والذي اغتيل في جبال كردستان من قبل عملاء مأجورين للنظام البعثي. وشارك الفيلم في مهرجان الأفلام الكردية المنعقد بالعاصمة البريطانية لندن، واستمر عرضه في صالات السينما بكردستان لأربعة أشهر متتالية محققا رقما قياسيا في تاريخ السينما الكردية والعراقية.

ومسلسل «العاصفة» الذي يعكف المخرج الكبير جليل زنكنة على إخراج الجزء الثالث منه، يستأثر أيضا بشعبية واسعة مثل ذلك الفيلم، محققا رقما قياسيا في نسبة المشاهدة، حتى أنه لا مبالغة في القول إن شوارع مدن كردستان كانت تخلو مع مواقيت عرض هذا المسلسل، كما أن أحد الطلبة الكرد الروس أبلغ المخرج في إحدى زياراته إلى كردستان «أن الأكراد في روسيا كانوا يتابعون برمتهم الأجزاء المعروضة من المسلسل عبر الفضائيات الكردية».

التقت «الشرق الأوسط» بالمخرج زنكنة وسألته في البداية عن فكرة تقديم هذا العمل الدرامي الكبير وما إذا كان يحسبه بهذا الطول فقال «نحن لدينا تاريخ مليء بالدماء والتضحيات الجسام، وهذا التاريخ أهمل من قبلنا، حتى أن الأعداء باتوا يكتبونه، ومعلوم أن من يكتب تاريخ غيره يكتبه إما بشكل ناقص، أو مشوه، وسواء كان عن قصد أو من غير قصد. ورغم أننا نمتلك وسائل البث الفضائي والتلفزيوني والكثير من وسائل الإعلام المختلفة، لكنني لاحظت أن تلك الوسائل لا تنقل الرسالة الواضحة لشعبنا إلى الآخرين كما هو مطلوب.

ومن جهة أخرى لاحظت أيضا أن الجيل الحالي لم يعد يعرف شيئا عن تاريخ شعبه، وهناك من لا يعرف السبب في استشهاد أبيه وتشرد عائلته. والجيل الحالي عموما لا يعرف إلا القليل من تاريخ ثورات شعبه، ابتداء من ثورة الشيخ محمود الحفيد إلى ثورة أيلول بقيادة الملا مصطفى البارزاني إلى الثورة الجديدة المندلعة في كردستان عام 1975، ناهيك عن عدم معرفة الكثيرين منهم بأسباب كل هذه الجرائم التي ارتكبتها الأنظمة المتعاقبة على العراق ضد شعبنا، من ضربات عسكرية وتدمير القرى، وصولا إلى عمليات الأنفال والقصف الكيماوي، ولذلك بدأت في عام 1990 بكتابة عمل درامي خططت من البداية أن يكون بخمسة أجزاء توثق لتاريخ الثورات الكردية، أبدأها بثورة الشيخ محمود في العشرينات إلى الخمسينات، لكن بسبب عدم توفر المواد الضرورية لهذا المسلسل من الإكسسوارات والأثاث وغير ذلك بما يصور الواقع في ذلك العهد، بدأت بسرد الوقائع في الجزء الأول من تاريخ 21-12-1976 وهو يوم بداية الأحداث إلى شهر فبراير (شباط) من عام 1977، وخرج الجزء الأول بخمس وعشرين حلقة. ثم بدأت بكتابة الجزء الثاني الذي يوثق للفترة من أواخر عام 1977 إلى أواخر عام 1978، وخرج العمل أيضا بخمس وعشرين حلقة ولقي شعبية واسعة في جميع أجزاء كردستان حتى أن بعض الأصدقاء والشخصيات في منطقة بهدينان التي يتحدث سكانها بلهجة مختلفة عن اللهجة السورانية المستخدمة في المسلسل وهما لهجتان بعيدتان جدا عن بعضهما، أثنوا على العمل وأبلغوني بأن شباب المدينة كانوا شغوفين بمتابعة هذا المسلسل، وقالوا إن جليل زنكنة نجح في هدم ذلك الحاجز اللغوي بين المنطقتين. ثم كتبت الجزء الثالث الذي أعمل على تصويره حاليا وهو من 60 حلقة، ويعد من أضخم الأعمال في تاريخ الدراما العراقية».

وبسؤاله عن الجهات التي تدعم هذا العمل الفني الضخم قال المخرج زنكنة «هذا العمل هو من إنتاج فضائية (كوردسات)، ويشارك فيه مئات الممثلين والممثلات، وعلى المستوى الشخصي لم أتلق أي دعم مادي أو معنوي من أي جهة كانت، وأنا لا أعمل بهذا المسلسل من أجل الشهرة أو المكاسب المادية، فهدفي الأول والأخير هو خدمة شعبي».

وقاطعناه: ولكن عملا بهذا المستوى من الضخامة لا بد أن يحتاج إلى دعم من الحكومة! قال «الأعمال الدرامية تدخل جميع البيوت دون استئذان بسبب ما يمتلكه الناس من أجهزة التقاط البث الفضائي، فقد زالت الحدود وأصبح الناس حتى في القرى النائية قادرة على متابعتها، واليوم نرى غزوا ثقافيا خطيرا لمجتمعاتنا عبر تلك الأعمال، فالدراما التركية والمكسيكية والإسبانية وغيرها تغزو فضائياتنا، وأميركا استطاعت أن تغزو العالم وتنشر ثقافتها من خلال الأفلام السينمائية، ولكن في ظل كل هذا الغزو فإن حكومتنا لا تقدم الدعم لمشروعات الدراما الكردية كما يجب.

تصور أن السينما الكردية التي باتت ملامحها تظهر مؤخرا، وأصبح الكثير من الأفلام الكردية لمخرجين مبدعين أكراد تتنافس في مهرجانات دولية وتحصد الكثير من الجوائز، ولكن وزارة الثقافة في حكومة إقليم كردستان بدلا من تقديم الدعم لهؤلاء المخرجين تغلق قسم السينما بالوزارة لا لشيء إلا بسبب إخفاقات موظف أو موظفين في إدارته، في ظل هذا الوضع لا نتوقع من الحكومة أن تقدم لنا الدعم المطلوب، تصور أن هذا المسلسل الضخم الذي أنا بصدد إخراجه أوقفت تصويره لأكثر من 10 أشهر بسبب مراجعة جهة الإنتاج لحسابات المصاريف والتدقيق وما إلى ذلك من الشؤون الحسابية، لولا ذلك لكنت قد أنهيت العمل وقدمته في شهر رمضان الماضي. واليوم أتعرض لضغوطات كبيرة بسبب محدودية ميزانية العمل، كل هؤلاء الممثلين والممثلات وهم بالمئات يشاركون في هذا العمل دون أن أستطيع تقديم أجور محترمة يستحقونها عن جدارة، أريد أن أقول لك شيئا: مجمل ميزانية هذا المسلسل الدرامي والذي قلت إنه أضخم عمل درامي في تاريخ العراق لا يوازي ما يتقاضاه الفنان عادل إمام في لقاء صحافي واحد».

وعن توقعاته بمستقبل الدراما الكردية وهو أحد صناعها والعاملين في مجالها منذ أكثر من 40 عاما قال زنكنة «الانطلاقة كانت جيدة، وهناك محاولات كثيرة من قبل مخرجين شباب لإرساء أسس سليمة لها، قياسا إلى الدراما في بعض الدول مثل اليمن وإريتريا وحتى بعض دول الخليج، وأسوق هذه الأسماء لأنها لدول ذات سيادة على عكس إقليم كردستان الذي هو إقليم ضمن دولة، عليه فإن الدراما الكردية تشق طريقها بشكل جيد، وسوف تتقدم كثيرا بفضل جهود فنانين شباب نراهم اليوم على الساحة الفنية».

سألته «الشرق الأوسط» نلاحظ في الكثير من الأعمال الدرامية والسينمائية الكردية طغيان مسألة تتكرر فيها أو تدور مجمل قصص تلك الأعمال بفلكها، وهي عمليات الأنفال وحلبجة، فمتى سيخرج الفنان الكردي من هذا النطاق الضيق إلى فضاء أوسع حيث الدراما الاجتماعية والكوميدية والعاطفية التي تمس حياة الناس اليوم؟ أجاب «هذا صحيح هناك تركيز على هذه المسألة، ولكن يجب أن لا ننسى أن تاريخنا يمتلئ بهذه الأحداث، ومن حق أجيالنا الحالية والمستقبلية أن يلموا بتاريخهم وما عاناه آباؤهم وأجدادهم. ولكن مع ذلك حاولت أنا في هذا المسلسل التاريخي أن أروي قصصا مما ذكرت، فالعمل هو شامل يحوي جميع مشاهد وصور الحياة اليومية للمواطن الكردي، فمسلسلي لا يروي فقط الأحداث العسكرية ونشاطات البيشمركة فحسب، بل يروي قصصا أخرى، مثل العلاقات الاجتماعية منها علاقة الحماة بكنتها، وكذلك قصص الحب والعشق، وكيف أن أحد البيشمركة كان يعرض حياته للخطر بالنزول من الجبال إلى المدن التي كان النظام يسيطر عليها لمجرد أن يرى وجه حبيبته ثم يعود إلى الجبال، وهناك مشاهد لبنات كن يذهبن إلى الجبال لمجرد رؤية حبيبهن. وكذلك مشاهد الزوجات وهن يزرن أزواجهن في السجون والمعتقلات ويأخذن أطفالهن ليراهم آباؤهم لأول مرة وهناك كثير من المشاهد الأخرى التي تروي وتوثق للعلاقات الاجتماعية».

وعن مستوى النقد الفني المواكب لظهور حركة الدراما الكردية يقول زنكنة مخرج مسلسل العاصفة «النقد الفني في بداياته حاليا، والكثير من النقد الذي ينشر في الصحف لا يعدو سوى ملاحظات أو انطباعات الكاتب، وهناك محاولة من عدد من النقاد الجيدين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، ولكنها تبشر بخير، حيث إنها تحوي رؤى علمية وأكاديمية تساعد على تنمية وإنهاض الحركة الدرامية في كردستان».

 

أربيل: شيرزاد شيخاني

Comments

No comments yet. Why don’t you start the discussion?

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *