عقبات الحوار العربي – الكردي

عقبات الحوار العربي – الكردي

conversation_092347

مقال كان قد كتبه الدكتور عبد الباسط سيدا في عام 2005 , حيث يتم تناول عقبات الحوار بين العرب والكرد فيما يخص نظرة الحقوقيين العرب للقضية الكردية ( هيثم المالح نموذجاً )

نص المقال :
كنت من المتابعين لنشاطات وجهود الاستاذ هيثم المالح الخيّرة في مجال الدفاع عن حقوق الانسان السوري، على الرغم من ظروفه الصعبة التي لا يحسد عليها. كما كانت آراؤه الواضحة ومواقفه الجريئة حول الواقع اللاقانوني الذي تعيشه سورية في ظل ذهنية الطوارئ موضع التقدير الدائم، وذلك من جانب غالبية السوريين على اختلاف انتماءاتهم القومية والدينية والمذهبية والسياسية. وقد عبر عن الكثير منها في المقابلات التلفزيونية والمقالات والأحاديث العلنية والخاصة. وقد كانت الجهود المعنية والآراء المذكورة هذه باعثاً لحصول صاحبها على العديد من شهادات التقدير والاعتراف بالفضل من قبل مؤسسات حقوقية وبرلمانات أوربية وغيرها……..

لقد التقيت شخصياً بالاستاذ المالح في باريس قبل عامين تقريبا، وذلك في إطار ندوة كان طموحها هو أن تكون مقدمة لحوار جاد مطلوب بين العرب والكرد السوريين….. وكانت حصلية ذلك اللقاء انطباعات ايجابية حول مواقفه من مجمل الأوضاع في سورية، وذلك بعد ان استمعت اليه في الجلسة العامة، وتناقشت معه في العديد من المسائل في جلسة خاصة. وعلى اثر ذلك اتصلت مع بعض الاخوة في الداخل، واقترحت عليهم ضرورة الاتصال معه بغيره من الاخوة العرب المناصرين لقضايا الحق والعدل. وما لاحظته هو أن الاخوة في الداخل كانوا متفقين معي في الرأي، وكانت لديهم اتصالات معه….

كل ذلك يسجل لصالح الرجل، الذي ما زلت أحترمه، وأقدر شجاعته في ميدان كشف آلاعيب السلطات السورية، وتجاوزاتها اللاقانونية……لكن كل ذلك في المقابل، لا يمنح الرجل مشروعية الاساءة إلى الآخرين ومصادرة حقوقهم؛ استناداً إلى جملة استناجات ذاتية تفتقر إلى القرائن العيانية بصيغها المختلفة؛ وهذا ما فعله بكل أسف مع الشعب الكردي بأسره في مقال قصير، نُشر في موقع ’’كلنا شركاء’’؛ مقال أساسه الجهل أو التجاهل، ومحوره المنطق الرغبوي الذاتي، في حين أن خلفيته هي المنظومة المفهومية البعثية ذاتها التي باتت – بكل أسى – جزءاً عضوياً من أدوات التفكير لدى العديد من المثقفين العرب الذين يقاربون بهذه الصورة أو تلك المسألة الكردية في سوريا تحديداً؛ وقد تناولت هذا الموضوع في ورقتي التي قدمتها إلى ندوة باريس عام 3003؛ وكان الأخ هيثم المالح نفسه موجودا كما أسلفت. ولم يعلّق حينئذ على ما ورد فيها، بل فهمت من تعامله الشخصي معي فيما بعد، أنه يثمّن ما ذهبت اليه…..

لن أتوقف هنا عند كل كلمة كتبها المالح حول المشكلة الكردية – كما يحلو له أن يسميها – أو المسألة الكردية، المصطلح الأكثر توصيفاً وموضوعية ودقة. ولا نبالغ هنا البتة إذا قلنا أن المقال من بدايته إلى نهايته محشو بالمغالطات والمفارقات والأحكام المتسرعة اللاعلمية التي لاتليق بشخص في مستوى المالح. لكنني عوضاً عن ذلك سأتناول ثلاثة محاور، أرى أن المقال بمجمله يتمفصل حولها…..

تسويغ الجهل وتسويقه:

يقول المالح في بداية مقاله المذكور:
’’إن من أهم أسباب ظهور القضية الكردية اليوم يرجع إلى الجذور حين اعتقد الأكراد أنهم شعب متفرد كالترك والفرس، مع أن الدراسات التاريخية والمراجع العربية ككتاب نهاية الأرب للنويري والاشتقاق لابن دريد ووفيات الأعيان لابن خلّكان وهو كردي ومروج الذهب للمسعودي تنص بما لا يقبل الشك أن الأكراد في أصلهم عرب ينحدرون من أربع قبائل واحدة يمنية وثلاث مضرية’’

بهذه السرعة، وبهذه القطعية يصل المالح إلى نتيجة لا يشك هو في صحتها، وهي أن الأكراد في مجملهم من عفرين إلى ديريك، من السليمانية إلى مهاباد وسنه، مروراً بآمد وقارس، بما في ذلك أولئك الكرد الذين في جورجيا وكازخستان وأرمينيا، هم جميعاً في أصلهم من مجرد أربعة قبائل عربية، انفصلت عن أصلها في ظروف ما، وبفعل عوامل لا يحددها المالح، قبائل نسيت لغتها بعد أن خالطت الأقوام الاخرى، وباتت نواة لتكوين اجتماعي جديد، اعتقد أفراده خطأ، ومن دون وجه حق، أنهم يمثلون شعباً متفرداً كبقية شعوب المنطقة.

حقيقة، لا أعلم كيف أرد على هذا الكلام، لانه في أصله متهافت، يعاني من تناقضات داخلية عميقة، لا أكاد أصدق أنها فاتت شخصاً في وزن هثم المالح…… فهو يختزل قضية شعب يربو تعداده اليوم على أكثر من أربعين مليوناً مُني بكل الآفات المبيّتة على مر العصور، لكنه ظل محافظا على شخصيته القومية، معتزاً بها؛ مدافعاً عنها، من دون أن ينتقص من حق الآخرين، أو يسيء إليهم. والكرد الذين يعتنق معظمهم الاسلام، يحترمون العرب بفعل دوافع التدين الأصيلة التي تميزوا بها؛ لكن هذا ليس معناه أن يقوم المالح، أو غيره، بلوي عنق التاريخ بناء على آراء عامة، كتبها مؤلفون موسوعيون أكتفوا بما اعتقدوه أو تأملوه في مرحلة تاريخية غابرة، من دون أي سند علمي أو تاريخي أو آثاري، وفي وقت لم تكن قد ظهرت العلوم الحديثة في ميدان الابحاث المتصلة بالتاريخ القديم. فالتاريخ لا يبدأ مع الاسلام، بل يسبقه بمراحل زمنية اقدم، يمتد عبر ايام الهوريين – الحوريين – وقبلهم إلى مراحل موغلة في القدم، وقد عاصر الهوريون / الحوريون – الذين يعتبرون وفق النظريات الحديثة المجموعة الأقرب من الأقوام التي ا نحدر الكرد منها – هولاء الذين عاصروا الأكاديين والمصريين القدماء، الذين لم يذكرهم المسعودي ولا غيره من الذين يستند المالح إلى آرائهم في بناء حكمه القطعي الذي يقطع في الواقع مع اي نفس علمي…- ودخلوا معهم في صراعات وحروب من جهة، وارتبطوا بهم بعلاقات تجارية ودبلوماسية من جهة ثانية…. وقد كان باستطاعة المالح في هذا السياق ان يعود إلى أي مرجع علمي محكم في التاريخ القديم للمنطقة، أو إلى أي مختص في المجال المعني، ليتأكد من هشاشة نتائجه بفعل الجهل كما أتمنى، وليس التجاهل، لان المصيبة حينذ ستكون اصعب….

ويحاول المالح متابعة جذور المسألة وفق نزوعه الخاص، فيقول: ’’ كيف تهيأ للأكراد هذا التقوقع في نسيج خاص. والجواب أن الأكراد هاجروا من الجزيرة العربية وصعدوا في شمال العراق وفي خراسان وحتى هراة، فاكتسبوا لغتهم من مزيج من العربية والفارسية واللغات المحلية، ولكن كثيراً منهم لم يتخلوا عن لغتهم العربي’’.
مرة أخرى، يقف المرء حائراً أمام هذا النمط من التبسيط والتسطيح، فضلاً عن الجهل بألف باء الامور. فاللغة الكردية التي حافظت عبر العصور – على الرغم من كل صنوف القمع والمنع، ومساعي الصهر سواء عبر عمليات التفريس و التتريك و التعريب- هي لغة هندو-أوربية تنتمي إلى فرع اللغات الايرانية – وليست الفارسية- وذلك باعتراف جميع المختصين في ميدان اللغات على مستوى العالم بأكمله؛ وحبذا لو عاد المالح إلى الأبحاث المعنية في هذا الميدان، وحكم بنفسه على استدلاله الفاسد الذي يتجاهل واقع الاختلاف الجذري بين اللغة العربية التي لا غبار على أصالتها وجماليتها، واللغة الكردية التي يعتز بها الكرد لسبب بسيط هو انها لغتهم القومية؛ ويشمل هذا الاختلاف الأصوات والمفردات والقواعد.
أما أن يكون المالح قد استمع إلى كرد ي في دمشق دفعته ظروف التعريب القسري إلى الخلط بين العربية والكردية، فليس هذا مؤداه أن الأصل بالنسبة إلى الكرد يتمثل في العربية، وان الكردية جاءتهم بفعل تأثير اللغات المحلية التي لا يحددها المالح، بل يردف قائلاً: ’’كان مجيء الأكراد من الشمال لمحاربة الصليبين أن عادوا للانتشار في العالم العربي ولكن مجيء العثمانين دفعهم إلى التحصن بالمناطق الجبلية والوعرة كما في شمال سوريا وشمال العراق،،.
ما يريده المالح تمريره هنا، هو أن الكرد عادوا إلى أصلهم العربي، وأن وجودهم في شمال سوريا وشمال العراق، اي في كردستان سوريا وكردستان العراق، كان نتيجة اضطهاد العثمانين لهم، بمعنى أن وجودهم هناك عارض طارئ.
هنا، لا يخفى على القارئ النبيه مدى هيمنة ذهنية التناقض لدى المالح. فالكرد – وفق منطوقه- كانوا عرباً، غادروا، وعادوا ثانية لمقارعة الصليبيين، فانتشروا ثانية في العالم العربي – والأصح الاسلامي فيما لو عدنا إلى مقاييس العصر المعني. أما المناطق الجبيلية والوعرة التي لاذ بها الكرد نتيجة الظلم، فهي تمثل جزءاً من بلادهم التي تضم السهول الواسعة أيضاً، مثل سهل شهرزور وهولير، وسهول الجزيرة، ومن المعروف أن هذه الأخيرة على وجه التخصيص هي التي تمد الاقتصاد الوطني السوري بالحبوب والقطن وغيرهما من المحاصيل الزراعية. يبدو أن الجهل هنا لا يشمل التاريخ فحسب، بل يمتد إلى الجغرافيا، الأمر الذي يوحي بما لايتناسب مع ذهنية داعية حقوق انسان في مستوى الاستاذ هيثم المالح.
الاحتكام إلى النزوع الرغبوي:

يقول المالح: ’’حين سادت فكرة القوميات في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، برز الأكراد بقوميتهم شوكة في جانب القوميات الأخرى.’’
لا أعلم ماذا أصاب حصافة السيد مالح ونباهته، وهو يخط مثل هذا الكلام الغريب. فهو هنا لا يذود عن العروبة وحدها وفق منطقه الخاص الذي يبدو – استناداً إلى ما تقدم- انه لايختلف كثيراً عن منطق عصمت سيف الدولة وغيره من المنظرين الذين تقوم على آرائهم ايدولوجية البعث، بل يدافع عن القوميات التي تقتسم دولها كردستان، مثل الفارسية والتركية، علما أن الاتراك يُعتبرون بالنسبة إلى شعوب المنطقة الأساسية من الأقوام الوافدة التي تمكنت بفعل عوامل خاصة وظروف متشابكة من الهيمنة في المنطقة؛ وقد تمكنوا من السيادة لفترة طويلة نسبياً امتدت إلى أكثر من أربعة قرون، حكموا خلالها ليس الكرد وحدهم، بل العرب وشعوب البلقان وشعوب اخرى كثيرة.

أما أن تعد اليقظة القومية نعمة بالنسبة إلى الشعوب الأخرى، ونقمة فيما يخص الكرد، لانهم أصبحوا- وفق رغبة المالح – شوكة في خاصرة الآخرين. فهذا امر لا نواجهه إلا في أدبيات غلاة المتعصبين من القوميات المعنية، هؤلاء الذين يرون أن الحالة الطبيعية بالنسبة إلى الكرد تتمثل في اذابتهم وصهرهم، ومنعهم بكل الوسائل من التفكير بامكانية الحصول على حقوقهم القومية المشروعة، أسوة ببقية شعوب المنطقة وجميع شعوب العالم.
وانطلاقاً من موقعه السامي كداعية لحقوق الانسان يخفف المالح من غلوائه بعض الشيء، ويمنن الكرد بجانب من عطفه، فيطالب بضرورة التخفيف عنهم بعض الشيء، خاصة في منطقة الجزيرة – ويقفز بدراية من فوق منطقتي كوباني وعفرين – فيدعو إلى الاهتمام بالمنطقة، وإعادة الجنسية إلى أبنائها الذين حُرموا منها؛ ومنحهم جوازات السفر؛ والحد من القيود الأمنية عليهم. وهكذا، وببساطة متناهية يحوّل المالح القضية من قضية شعب قُسمت أرضه وأُلحقت بالدول التي تقتسم كردستان، ومن ضمنها سورية؛ قضية شعب يعاني من اضطهاد مزدوج يتمثل في الحرمان من الحقوق، والتعرض في الوقت ذاته لجملة من الاجراءات الاضطهادية، أبرزها الحزام والاحصاء والتعريب، والتدابير الاستثنائية المتلاحقة ذات الصلة بمنع التوظيف، وتعقيد المعملات الادارية، والنهب المنظم. إن المالح يختزل كل ذلك- استجابة لنزوع رغبوي- إلى مجرد المطالبة بضرورة أن تعطف الدولة على المواطنين، وتخفف من معاناتهم. وبالتوافق مع النزوع نفسه، يوحي المالح أن الحكومة التي تمثل حزب البعث والأجهزة الأمنية التي تحكم البلد بالقول والفعل، ليست هي أصل المشكلة، بل ان الباعث الأساسي الكامن وراء مأساة الشعب الكردي يتمثل في ’’الصراع القومي الذي أذكاه االشيوعيون الأكراد لجعل المناطق الكردية نواة لدولة شيوعية في المنطقة’’.
مغالطة صارخة اخرى تُضاف إلى تلك التي يعج بها المقال من ألفه إلى يائه كما أسلفنا. فالشيوعيون الذين يتحدث عنهم المالح، خاصة أنصار خالد بكداش، كانوا يطالبون على الدوام بتأجيل المسائل القومية لصالح تلك الطبقية؛ وكانوا يزعمون أن الدولة الاشتراكية – التي كانوا يبشرون بها- ستضع نهاية لكل المعضلات. لذلك كان يمتنع هؤلاء عن ذكر عبارة ’’كرد عليه’’ في أدبياتهم خشية من أن تفسر على إنها تشير إلى كلمة كرد بهذه الصيغة أو تلك……
لقد تعرض الشعب الكردي للضغط والاقصاء من قبل جميع الأطراف. القوميون العرب كانوا يصرون على انتمائه العربي.. في حين أن الشيوعيين كان يطالبونه بالكوسموبوليتية، ويسعون من أجل تحويله إلى مجرد برغي في آلة الاممية الدولية. أما الاسلاميون، فكانوا إلى زمن قريب يرفضون الاعتراف بخصوصيته القومية، انطلاقاً من الاخوة الاسلامية التي لم يكن سوى الكرد يطالبون باحترامها من خلال التخلي عن قوميتهم؛ في حين أن الجميع سواء أكانوا من القوميين أو الشيوعيين أوالاسلاميين، كانوا وما زالوا يحترمون القوميات الاخرى من تركية وعربية وفارسية. إنها سياسة الرغبات الذاتية التي لا تستند إلى أية معايير موضوعية، من شأنها- فيما لو اعتمدت- أن تكون مقياساً لتحديد طبيعة المسائل أو القضايا موضوع المناقشة…
التمترس بالموضوعية الزائفة الخادعة:

إن اسلوب الاعتراف بجزء من الحقيقة لإستمالة الألباب، واخفاء وتطويع الأجزاء الأخرى الأهم لتحقيق المآرب؛ إنما هو اسلوب يطبع بميسمه مواقف الكثير من الاخوة المثقفين العرب الذين لم يتجاوزوا بعد دائرة الخضوع لأوهام السلطان والذات. فهم يضطرون تحت وطأة الظروف المستجدة إلى الاعتراف بجانب من الحق الكردي الذي لاتتجاوز تخومه عندهم القشور والوعود الضبابية غير المحددة المعالم. يتحدث أغلبهم عن حقوق المواطنة المبهمة؛ وكأن المواطن هو كائن مجرد لا محسوس، لا يمتلك لغة خاصة به،أو أية مشاعر أو أحساسيس قومية؛ ولا يحمل إرثاً ثقافياً يجمعه إلى أولئك الذين يشتركون معه في الخصوصية القومية ذاتها…. إلا أن بعضهم يغامر، ويطالب بالحقوق الثقافية للكرد، ولكن من دون أن يكلف نفسه عناء التوقف عند طبيعة هذه الحقوق وفحواها؛ الأمر الذي يوحي بكونها تنحصر لدى هؤلاء في الحديث المنزلي، والأغنية المحلية والألبسة الفولكلورية. هذا في حين ان هذه الحقوق تستلزم وقبل كل شيء الاعتراف الدستوري بالوجود الكردي؛ وإزالة كا ما شأنه عرقلة التطور الثقافي الكردي؛ ومد الثقافة الكردية – اسوة بما تحظى به العربية – بأسباب العون، وتمكينها من تجاوز عقود من التشويه والتحوير. و تشمل هذه الحقوق سائر المؤسسات الثقافية وأدواتها؛ وهي تبدأ من المدرسة الأساسية إلى الجامعة؛ مروراً بوسائل الاعلام بأنواعها كافة؛ إلى جانب مراكز البحث والدراسات وغيرها…. ولما كانت الثقافة لا تنفصل مطلقاً عن الاجتماع والسياسة والاقتصاد؛ وجد أصحابنا من أنصار أنصاف الحقوق أنفسهم في مواجهة مصاعب كبرى؛ أساسها التناقض في المواقف. فهم يدركون من ناحية مشروعية القضية، لكنهم من ناحية أخرى يرفضون الاقدام على الخطوة الأهم التي تستوجب القطع مع الأوهام والمخاوف والعقد، وتُلزم الاعتراف غير المجتزئ بالحقائق؛ الأمر الذي سيمهد الطريق أمام تفاهم أكيد قوامه الثقة المتبادلة، والركون إلى المصداقية. أما اسلوب التستر والتحوير و ’’الغمغمة’’، فهو لن يؤدي إلا إلى التشنج والتشدد والافتراق..

فالمالح يطالب الكرد بالتخلي عن الرغبة في إنشاء الدولة القومية، ويدعوهم إلى الاقتداء بما أنجزته الامم الاخرى في ميدان الاتفاق والاتحاد. وحجته في هذا السياق هي ’’ ان العالم اليوم يتكتل في مجتمعات تعطي أفرادها مزيداً من الرفاه والتقدم. فها هو الاتحاد الاوربي، والاتحاد الهندي والاتحاد الاندنوسي والاتحاد الكندي، ودول الكومنولث والاتحاد الافريقي، خير مثال على ذلك’’.

إن النزعة البطريركية هذه التي تعامل الشعب الكردي وكأنه لا يفقه التاريخ والجغرافيا، ولايستوعب الظروف الاقليمية والتطورات الحاصلة في العالم؛ إن هذه النزعة لم تعد عكازة صالحة للإتكاء. والأمثلة التي يوردها المالح تتناقض جميعها مع مقدماته ونتائجه. فالاتحادات المعنية لم تلغ في يوم من الأيام الخصوصيات القومية لأعضائها؛ وليس في نيتها أن تفعل ذلك في المستقبل. وأذكر في هذا السياق انني كنت قبل أشهر في مقر البرلمان الاوروربي ببروكسل؛ وما لفت نظري أكثر من غيره، تمثّل في تلك اللوحات الارشادية المكتوبة بلغات دول الأعضاء جميعها. في حين ان قاعات الاجتماعات، كانت تضم غرفاً جانبية صغيرة تشرف على القاعة، يجلس فيها المترجمون الفوريون مهمتهم ترجمة أحاديث الأعضاء إلى اللغات المختلفة، ليتسنى لكل عضو – اعتماداً على التقنية الحديثة – استيعاب ما يجري، ومتابعته من خلال لغته الأم التي تحظى بالاهتمام والتشجيع من جانب الاتحاد. واعتقد أن المالح يدرك قبل غيره انه ليس في نية الاتحاد الاوربي توحيد اللغات، عن طريق اعتماد الانكليزية أو الفرنسية مثلاً لتكون اللغة الوحيدة التي من شأنها توحيد الامة الأوربية، الذريعة التي يلتحف بها الرفاق البعثيون في سعيهم لفرض العربية قسراً على الكرد وغيرهم……
والأمر ذاته بالنسبة لدول الكومنولث والاتحاد الافريقي. أما بخصوص الاتحاد الكندي، فجميعنا يعلم أن قسماً لا يستهان به من قاطني مقاطعة كيبك يسعون إلى الاستقلال، ولايخفون نواياهم في هذا المجال. وبين الحين والآخر، تجري انتخابات هناك في مقاطعة كيبك وحدها من دون سائر مقاطعات الاتحاد الكندي، تستفتي المواطنين بخصوص الاستقلال. والناس في المقاطعة المذكورة يتعمتعون بكل حقوقهم، ويتحدثون بلغتهم الفرنسية، وذلك على خلاف الأغلبية الكندية التي تتحدث بالانكليزية؛ كما انهم يطوّرون ثقافتهم الفرنسية؛ كل ذلك بدعم وتشجيع من الدولة المركزية. وما يجعل الناس في كيبك يصوّتون لصالح البقاء ضمن أحضان الاتحاد انما يتشخص في الثقة والاحساس بالرضا والاطمئنان.
هذا في حين الكرد الذين يسمعون المالح وهو يقول: ’’هل يحق لكل قبيلة أو عنصر أن ينفصل بنفسه ويكّون دولة خاصة به. بمعنى هل يحق لقبائل عنزة أن تقيم لها دولة وكذلك الرولة’’؛ إن الكرد حينما يسمعون هذا الكلام يصابهم الهلع المشروع، وذلك جرّاء عقلية اناس اعتقدنا لفترة ما انهم الأصلح في ميدان التحاور والتواصل……..
فصاحبنا المالح بدلاً من أن يدقق النظر في الخارطة العربية، ليتأكد بنفسه من واقع وجود أكثر من عشرين دولة رُسمت حدودها على أساس اللهجات، بل والعشائر، خاصة في منطقة الخليج؛ يسعى – من دون وجه حق- إلى حصر الكرد بملايينهم الأربعين وربما اكثر في إطار قبيلة عنزة أو غيرها، هذا مع عدم انتقاصنا من قيمة هذه الأخيرة. لكن الامة شيء والقبيلة شيء آخر. مفهومان ينتميان إلى مراحل متباينة على صعيد الوعي والتطور التاريخي…..
انني في الواقع أجهل الكيفية والأسباب التي أوصلت المالح إلى هكذا نتائج هشة باهتة، لاتصمد أمام أدنى درجات النقد. لكن الذي أعلمه تماماً هو أن مثل هذه المواقف تثير الرعب والتوجس، وتتسبب في الشقاق والافتراق؛ ولاتخدم مطلقاً دعوات المطالبين بالحوار والتفاهم والعيش المشترك على أساس احترام الحقوق و الخصوصيات القومية تحديداً، وليس العرقية كما نسمع ونقرأ هنا وهناك.
فالمالح لا يرضى أن ’’ ينسلخ قسم من العرب الأكراد عن الوجود العربي’’. فهو ضد بوادر التقسيم في شمال العراق – على حد تعبيره ؛ ’’كما ان هناك من يسعى إلى مثل ذلك في سوريا وتركيا وايران’’، وذلك حفاظاً على وحدة الامة الاسلامية وقوتها. متناسياً أن الكرد في غالبيتهم ينتمون هم أيضاً إلى الاسلام؛ ومن حقهم – اسوة ببقية الشعوب الاسلامية – أن يختاروا نمط العيش الذي يتناسب مع تطلعاتهم، بما في ذلك انشاء الدولة المستقلة التي ستحميهم من هلوسات وهيجانات أصحاب العقول المحدودة…
كما ان الذي يقترحه المالح في هذا المجال على الكرد، ويتجسد وفق منظوره في ضرورة ’’ أن ينخرط الأكراد في المجتمعات المحيطة بهم، ويجري انصافهم‘‘ يتناقض هو الآخر مع المقدمات التي اعتمدها. فهو من ناحية يتابع أصل الكرد من البداية، ليحصره في أربع قبائل؛ لكنه في الحصيلة يدعو الكرد – الذين اعتقدوا، بناء على مقدمات المالح،انهم شعب متفرد كالترك والفرس- إلى الذوبان والتلاشي في نطاق المجتمعات المحطية بهم من تركية وفارسية إلى جانب العربية منها.

لنحتكم هنا إلى حكمة القارىء الكريم، ليقرر بنفسه ما إذا كان هذا الكلام يثير الشفقة أم الرثاء. أما أنا فسأختار من جهتي الابتسامة التي تمنحنا الثقة بالمستقبل الواعد لأبناء الشعبين الجارين – العربي والكردي- اللذين تشدهما وشائج قوية لن تستطيع سياسات الأنظمة وأحباليها، فضلا عن التخريجات النظرية للمالح وغيره، من قطعها أو الإساءة إليها………..

Comments

No comments yet. Why don’t you start the discussion?

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *